الحديث التاسع (فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرة سؤالهم...)


 الحديث التاسع (فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرة سؤالهم...)


عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم؛ فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" رواه البخاري ومسلم.
1 ــ  اتَّفق الشيخان على إخراج هذا الحديث، وهو بهذا اللفظ عند مسلم في كتاب الفضائل (1737) ، وقد جاء بيان سبب الحديث عنده في كتاب الحج (1337) عن أبي هريرة قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّها الناس! قد فرض الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولَمَا استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتُكم؛ فإنَّما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فدعوه".

2 ــ قوله: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" فيه تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة دون النهي؛ وذلك أنَّ النهيَ من باب التروك، وهي مستطاعة، فالإنسانُ مستطيعٌ ألاَّ يفعل، وأمَّا الأمر فقد قُيِّد بالاستطاعة؛ لأنَّه تكليف بفعل، فقد يستطاع ذلك الفعل، وقد لا يُستطاع، فالمأمور يأتي بالمأمور به حسب استطاعته، فمثلاً لَمَّا نهي عن شرب الخمر، والمنهي مستطيع عدم شربها، والصلاة مأمور بها، وهو يصليها على حسب استطاعته من قيام وإلاَّ فعن جلوس، وإلاَّ فهو مضطجع، ومِمَّا يوضحه في الحسيَّات ما لو قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب، فإنَّه مستطيع ألاَّ يدخل؛ لأنَّه ترك، ولو قيل له: احمل هذه الصخرة، فقد يستطيع حملها وقد لا يستطيع؛ لأنَّه فعل.
3 ــ ترك المنهيات باق على عمومه، ولا يُستثنى منه إلاَّ ما تدعو الضرورة إليه، كأكل الميتة لحفظ النفس، ودفع الغصَّة بشرب قليل من الخمر.
4 ــ النهي الذي يجب اجتنابه ما كان للتحريم، وما كان للكراهة يجوز فعله، وتركه أولى من فعله.
5 ــ  المأمور به يأتي به المكلَّف على قدر طاقته، لا يكلِّف الله نفساً إلاَّ وسعها، فإذا كان لا يستطيع الإتيان بالفعل على الهيئة الكاملة، أتى به على ما دونها، فإذا لم يستطع أن يصلي قائماً صلَّى جالساً، وإذا لم يستطع الإتيان بالواجب كاملاً أتى بما يقدر عليه منه، فإذا لَم يكن عنده من الماء ما يكفي للوضوء توضَّأ بما عنده وتيَمَّم للباقي، وإذا لم يستطع إخراج صاع لزكاة الفطر، وقدر على إخراج بعضه أخرجه.
6 ــ قوله: " فإنَّما أهلك مَن كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" المنهيُّ عنه في الحديث ما كان من المسائل قي زمنه يترتَّب عليه تحريم شيء على الناس بسبب مسألته، وما يترتَّب عليه إيجاب شيء فيه مشقَّة كبيرة وقد لا يُستطاع، كالحجِّ كلَّ عام، والمنهيُّ عنه بعد زمنه ما كان فيه تكلُّف وتنطُّع واشتغال به عمَّا هو أهم منه.
7 ــ قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/248 249) : "وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساماً: فمِن أتباع أهل الحديث مَن سَدَّ بابَ المسائل حتى قلَّ فقهُه وعلمُه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حاملَ فقه غيرَ فقيه، ومِن فقهاء أهل الرأي مَن توسَّعَ في توليد المسائل قبل وقوعها، ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلُّف الجواب عن ذلك وكثرة الخصومات فيه والجدال عليه، حتى يتولَّد من ذلك افتراقُ القلوب ويستقرَّ فيها بسببه الأهواءُ والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيراً بنيَّة المغالبة وطلب العلوِّ والمباهاة وصرف وجوه الناس، وهذا مِمَّا ذمَّه العلماءُ الربَّانيُّون، ودلَّت السنَّةُ على قُبحه وتَحريمه، وأما فقهاءُ أهل الحديث العاملون به، فإنَّ معظمَ همِّهم البحث عن معاني كتاب الله عزَّ وجلَّ وما يفسِّره من السنن الصحيحة وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهُّمها والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومَن وافقه مِن علماء الحديث الربانيِّين، وفي معرفة هذا شغلٌ شاغلٌ عن التَّشاغل بما أحدث من الرأي مِمَّا لا ينتفع به ولا يقع، وإنَّما يورثُ التَّجادلُ فيه الخصومات والجدال، وكثرة القيل والقال، وكان الإمام أحمد كثيراً إذا سُئل عن شيء من المسائل المولَّدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة".
إلى أن قال: "ومَن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه تَمكَّن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالباً؛ لأنَّ أصولَها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بدَّ أن يكون سلوكُ هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم، كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومَن سلك مسلكهم، فإنَّ مَن ادَّعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذُ به، وترك ما يجبُ العملُ به، وملاك الأمر كلِّه أن يقصد بذلك وجهَ الله والتقرُّبَ إليه، بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوك طريقه والعمل بذلك ودعاء الخلق إليه، ومَن كان كذلك وفَّقه الله وسدَّده وألْهَمَه رشدَه وعلَّمه ما لَم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) ومن الراسخين في العلم".
إلى أن قال: "وفي الجملة فمَن امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وانتهى عمَّا نهى عنه، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره، حصل له النجاةُ في الدنيا والآخرة، ومَن خالف ذلك، واشتغل بخواطره وما يستحسنه، وقع فيما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم".
8 ــ مِمَّا يُستفاد من الحديث:
1 ــ  وجوب ترك كلِّ ما حرَّمه الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 ــ  وجوب الإتيان بكلِّ ما أوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
3 ــ  التحذير من الوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب مِمَّا كان سبباً في هلاكهم.
4 ــ  أنَّه لا يجب على الإنسان أكثر مِمَّا يستطيع.
5 ــ  أنَّ مَن عجز عن بعض المأمور كفاه أن يأتي بما قدر عليه منه.
6 ــ  الاقتصار في المسائل على ما يُحتاج إليه، وترك التنطُّع والتكلُّف في المسائل.
المقال السابق
المقال التالي
مقالات دات صلة

0 comments: